على عتبةِ الرحيلِ أرسى سنينَ عمره المتبقية في حقيبة بيضاء !!!... واتكأ بصمت على ما مضى من ذلك العمر...
في عينيه ... تساوت الصورُ والأماكن ... فلم يحرك هبوب رياحها شرقاً وغرباً شيئاً من خصلات شعره ... ولم يتغير لونُ عينيه ... فبقي فلسطينياً ... حسبوه يعشق السفر ... وما دروْا أنه يعد للرحيل منذ أسرج غربته بالهوى ومضى فارساً ... يحملُ غضباً من أمواج تتلاطم في حدقة عينيه ... هكذا قالوا عنه ... بحر يهدر دوماً بين ضلوعه وعلى شفتيه ... يحسبه الحمقى ... بسمة عاشق !!!...
مسافرٌ لا يخشى الوحدة ... ولم يطلب يوماً (فسحة) أو (شمة هوا) ... غريبٌ بجواز أوراقه وجعٌ تراكم فوق وجع ... وبدلاً عن صورته نقشٌ لزيتونة تضيء وجهه ككوكب دري !!!... يحسبها الحمقى في كل مطارات الدنيا ... بسمة عاشق !!!...
إيه يا توهج الشفق بالموت تشتاقه ... كلما لمع في سماء روحك البعيدة فسفورهم !!!... ليته اختارك ولا أذىً ينالُهم ... أحبابك ... تجمع بارود أجسامهم المحترقة ... وقد تسربَ مع نسمات الليل رغم الحصار.
تبكيه بصمتك وتحرسه !!!... وفي جوف بُعدك تخفيه وتشكله !!!... ثم تبعثه كمرسال أميرٍ عاشق ... وثلة من الرجال يحملونه على أكف تحترقُ بأذى الأعراب ... وهي تمتد فوقَ ألسنة لهب حراسهم ... وفي أنفاق تنبضُ بدماء الغيث يجري كتابوت موسى يعرف مستقره ... ليعود للوطن باروداً وقذائف وعهد رجال يخشاه المحتل ويخشاك ... تماماً كما يحبك من رحلوا لدرب أنت تعشقه !!!..
أيها الراحل لم نعرفك إلا بعد أن حُبست أنفاسك ... أو تراك كتمتها عمداً لترحل معك وفي جوفك بارودك وسرك ... وقد عجز غدرهم عن انتزاعه منك !!!... ودمك أيضاً ... حملته معك ليظل في أنفاق شرايينك وقد سكنت القدس جسدك ... ليحييها برحيلك !!!... فشكراً لهم ... وقد جمعوا لك ما تمنيت ... فما كان لمثلك أن يسيل دمه على غير ترابها أبداً ... وما كان له أن يرحل إلا شهيداً !!!...
دعاك الرحيل على غير ميعاد ... كالمحبين ... لبلاد لهو حيث لا شهادة هناك !!!... بروج مشيدة ووجوه من أرقام لا تعشق إلا الدنيا !!!... فحملتكَ حقيبتك البيضاء وفيها ما تبقى من لحظات عمرك ... كفناً لم يفارقك يوماً أو يثنيك ... ووجعاً في جواز سفرك يحفظُ هويتك يا ابن فلسطين ... كي لا تخطئك الشهادة حين تُـقبل !!!...
حان وقت الرحيل بعد سفر طويل ... وعلى شفتيك هذه المرة ... ابتسامة عاشق !!!... تركتَها وقد مضيت دون أن تستأذن أحداً ... لتودع أحبابك وتطمئنهم أن الرحلة قد وصلت بسلام لمستقرها بعد طول السفر.
في تلك اللحظات ... كان وكنّا نحلم ... نأمل ... وننتظر ... وكان مسافراً يملؤه الحنين لهناك... حيث يتفنن الموت ويتشظّى مرات ومرات ... ثمّ يستمر !!!... كان وكنّا ... ولم يغفل ... ولم يتوقف ... والتفّوا حوله ... قصدهم قتله !!!... فقتلوه ومضوا ... كان يحلم بالوطن ... يأمل باللقاء ... وانتظرهما كثيراً طويلاً ... ثمّ ابتسم ... فبعض الرجال لا يليق بهم إلا أن يكونوا شهداء.
فكان وكنا ... كيف كنا ؟؟؟!!!... بماذا نحلم ؟؟؟... كيف نأمل ؟؟؟... من ننتظر ؟؟؟... هكذا هم الشهداء ... يرحلون ليفضحوا ضعفنا ... ثمّ لا يتركون حجة لأحد...
آذنت الرحلة الطويلة بنهايتها ... وأزِف الرحيل ... وما زال في القلب بقية من عزم ... ما زال هــو ذاته ... عنفوانه وألقه ... هدوء قسماتِه واللجة العميقة التي تأخذك عيونه إليها ... تسيح في حواكير الوطن وفي عبق الذكريات ... لتفيق فجأة على نبرة صوته الهادئة وابتسامته السريعة.
أزِف الرحيل ... والزمن يُسابقه ... يحث الخُطى نحو مصرعِه ولا يبالي...
ولستُ أبالي حين أقتل مسلماً ..... على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
تتربص به الحدقات الضيقة وتحيط به كالسوار ... ويتحرك غير آبهٍ لها ... مرفوع الرأس عالي الجبين ... حنانيك أيتها اللحظات القاتلة ... حنانيك أيتها الخطوات المتسارِعة.
ويترجل فارِسنا وما زالت خيله مسرجة ... واقفة تنتظر ... تدُقُ حوافِرها علّ القادِم يرقى لزِمامها ... يسايسُهُ ويُلاينُه ...
وليت شعري أيُــهُم مثلك يـــا شــهــيـــد